الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
بسم الله الرحمن الرحيم إلى من يصل إليه من المؤمنين والمسلمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فإنا نحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شىء قدير، ونسأله أن يصلى على صفوته من خليقته وخيرته من بريته محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا. أما بعد: فقد صدق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، /فإن هذه الفتنة التى ابتلى بها المسلمون مع هذا العدو المفسد، الخارج عن شريعة الإسلام، قد جرى فيها شبيه بما جرى للمسلمين مع عدوهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المغازى التى أنزل الله فيها كتابه، وابتلى بها نبيه والمؤمنين، مما هو أسوة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيرًا إلى يوم القيامة، فإن نصوص الكتاب والسنة، اللذين هما دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، يتناولان عموم الخلق بالعموم اللفظى والمعنوى، أو بالعموم المعنوى. وعهود الله فى كتابه وسنة رسوله تنال آخر هذه الأمة، كما نالت أولها. وإنما قص الله علينا قصص من قبلنا من الأمم، لتكون عبرة لنا. فنشبه حالنا بحالهم، ونقيس أواخر الأمم بأوائلها. فيكون للمؤمن من المتأخرين شبه بما كان للمؤمن من المتقدمين. ويكون للكافر والمنافق من المتأخرين شبه بما كان للكافر والمنافق من المتقدمين، كما قال ـ تعالى ـ لما قص قصة يوسف مفصلة، وأجمل قصص الأنبياء، ثم قال: وقـال ـ تعالى ـ لمـا ذكر قصة فرعون: وذكر فى غير موضع: أن سنته فى ذلك سنة مطردة، وعادته مستمرة. فقال تعالى: /فينبغى للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه فى عباده.ودأب الأمم وعاداتهم،لا سيما فى مثل هذه الحادثة العظيمة التى طبق الخافقين خبرها، واستطار فى جميع ديار الإسلام شررها، وأطلع فيها النفاق ناصية رأسه، وكشر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه، وكاد فيه عمود الكتاب أن يجتث ويخترم. وحبل الإيمان أن ينقطع ويصطلم. وعقر دار المؤمنين أن يحل بها البوار. وأن يزول هذا الدين باستيلاء الفجرة التتار. وظن المنافقون والذين فى قلوبهم مرض أن ما وعدهم الله ورسوله إلا غرورًا. وأن لن ينقلب حزب الله ورسوله إلى أهليهم أبدًا، وزين ذلك فى قلوبهم، وظنوا ظن السوء وكانوا قومًا بورًا، ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيران، وأنزلت الرجل الصاحى منزلة السكران، وتركت الرجل اللبيب لكثرة الوسواس ليس بالنائم ولا اليقظان، وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان، حتى بقى للرجل بنفسه شغل عن أن يغيث اللهفان، وميز الله فيها أهل البصائر والإيقان، من الذين فى قلوبهم مرض أو نفاق وضعف إيمان، ورفع بها أقوامًا إلى الدرجات العالية، كما خفض بها أقوامًا إلى المنازل الهاوية، وكفر بها عن آخرين أعمالهم الخاطئة، وحدث من أنواع البلوى ما جعلها قيامة مختصرة من القيامة الكبرى. فإن الناس تفرقوا فيها ما بين شقى وسعيد، كما يتفرقون كذلك /فى اليوم الموعود، وفر الرجل فيها من أخيه وأمه وأبيه؛ إذ كان لكل امرئ منهم شأن يغنيه. وكان من الناس من أقصى همته النجاة بنفسه، لا يلوى على ماله ولا ولده ولا عرسه. كما أن منهم من فيه قوة على تخليص الأهل والمال. وآخر فيه زيادة معونة لمن هو منه ببال. وآخر منزلته منزلة الشفيع المطاع. وهم درجات عند الله فى المنفعة والدفاع. ولم تنفع المنفعة الخالصة من الشكوى إلا الإيمان والعمل الصالح، والبر والتقوى. وبليت فيها السرائر. وظهرت الخبايا التى كانت تكنها الضمائر. وتبين أن البهرج من الأقوال والأعمال يخون صاحبه أحوج ما كان إليه فى المآل. وذم سادته وكبراءه من أطاعهم فأضلوه السبيلا. كما حمد ربه من صدق فى إيمانه فاتخذ مع الرسول سبيلاً. وبان صدق ما جاء به الآثار النبوية، من الأخبار بما يكون. وواطأتها قلوب الذين هم فى هذه الأمة محدثون، كما تواطأت عليه المبشرات التى أريها المؤمنون. وتبين فيها الطائفة المنصورة الظاهرة على الدين، الذين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى يوم القيامة. حيث تحزبت الناس ثلاثة أحزاب: حزب مجتهد فى نصر الدين. وآخر خاذل له. وآخر خارج عن شريعة الإسلام. وانقسم الناس ما بين مأجور ومعذور. وآخر قد غره بالله الغرور. وكان هذا الامتحان تمييزًا من الله وتقسيمًا؛ ووجه الاعتبار فى هذه الحادثة العظيمة: أن الله ـ تعالى ـ بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرع له الجهاد إباحة له أولاً، ثم إيجابًا له ثانيًا لما هاجر إلى المدينة، وصار له فيها أنصار ينصرون الله ورسوله، فغزا بنفسه صلى الله عليه وسلم مدة مقامه بدار الهجرة، وهو نحو عشر سنين؛ بضعًا وعشرين غزوة. أولها غزوة بدر وآخرها غزوة تبوك. أنزل الله فى أول مغازيه [سورة الأنفال] وفى آخرها [سورة براءة]. وجمع بينهما فى المصحف؛ لتشابه أول الأمر وآخره، كما قال أمير المؤمنين عثمان لما سئل عن القران بين السورتين من غير فصل بالبسملة. وكان القتال منها فى تسع غزوات. فأول غزوات القتال بدر، وآخرها حنين، والطائف. وأنزل الله فيها ملائكته، كما أخبر به القرآن؛ ولهذا صار الناس يجمعون بينهما فى القول، وإن تباعد ما بين الغزوتين مكانًا وزمانًا؛ فإن بدرًا كانت فى رمضان، فى السنة الثانية من الهجرة، ما بين المدينة ومكة، شامى مكة، وغزوة حنين فى آخر شوال من السنة الثامنة. وحنين واد قريب من الطائف، شـرقى مكـة. ثم قسـم النبى صلى الله عليه وسلم / غنائمها بالجِعْـرَانة واعتمر من الجعرانة. ثم حاصر الطائف فلم يقاتله أهـل الطائف زحفًا وصفـوفًا وإنما قاتلوه مـن وراء جـدار. فآخر غزوة كان فيها القتال زحفًا واصطفافًا هى غزوة حنين. وكانت غزوة بدر أول غزوة ظهر فيها المسلمون على صناديد الكفار، وقتل الله أشرافهم وأسر رؤوسهم، مع قلة المسلمين وضعفهم؛ فإنهم كانوا ثلاثمائة وبضع عشر، ليس معهم إلا فرسان، وكان يعتقب الاثنان والثلاثة على البعير الواحد. وكان عدوهم بقدرهم أكثر من ثلاث مرات، فى قوة وعدة وهيئة وخيلاء. فلما كان من العام المقبل غزا الكفار المدينة، وفيها النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فخرج إليهم النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه فى نحو من ربع الكفار، وتركوا عيالهم بالمدينة، لم ينقلوهم إلى موضع آخر. وكانت أولاً الكَرَّة للمسلمين عليهم، ثم صارت للكفار. فانهزم عامة عسكر المسلمين إلا نفرًا قليلاً حول النبى صلى الله عليه وسلم منهم من قتل، ومنهم من جرح. وحرصوا على قتل النبى صلى الله عليه وسلم حتى كسروا رباعيته، وشجوا جبينه، وهشموا البيضة على رأسه. وأنزل الله فيها شطرًا من سورة آل عمران، من قوله: وكان الشيطان قد نعق فى الناس: أن محمدًا قد قتل، فمنهم من تزلزل لذلك فهرب. ومنهم من ثبت فقاتل، فقال الله تعالى: وكان هذا مثل حال المسلمين لما انكسروا فى العام الماضى. وكانت هزيمة المسلمين فى العام الماضى بذنوب ظاهرة، وخطايا واضحة، من فساد النيات، والفخر والخيلاء، والظلم، والفواحش، والإعراض عن حكم الكتاب والسنة، وعن المحافظة على فرائض الله، والبغى على كثير من المسلمين الذين بأرض الجزيرة والروم، وكان عدوهم فى أول الأمر راضيًا منهم بالموادعة والمسالمة، شارعًا فى الدخول فى الإسلام./وكان مبتدئًا فى الإيمان والأمان، وكانوا قد أعرضوا عن كثير من أحكام الإيمان. فكان من حكمة الله ورحمته بالمؤمنين أن ابتلاهم بما ابتلاهم به ليمحص الله الذين آمنوا، وينيبوا إلى ربهم، وليظهر من عدوهم ما ظهر منه من البغى والمكر، والنكث، والخروج عن شرائع الإسلام، فيقوم بهم ما يستوجبون به النصر، وبعدوهم ما يستوجب به الانتقام. فقد كان فى نفوس كثير من مقاتلة المسلمين ورعيتهم من الشر الكبير ما لو يقترن به ظفر بعدوهم ـ الذى هو على الحال المذكورة ـ لأوجب لهم ذلك من فساد الدين والدنيا ما لا يوصف. كما أن نصر الله للمسلمين يوم بدر كان رحمة ونعمة. وهزيمتهم يوم أحد كان نعمة ورحمة على المؤمنين؛ فإن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقضى الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء فشكر الله كان خيرًا له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرًا له). فلما كانت حادثة المسلمين عام أول شبيهة بأحد، وكان بعد أحد بأكثر من سنة ـ وقيل: بسنتين ـ قد ابتلى المسلمون عام الخندق، كذلك فى هذا العام ابتلى المؤمنون بعدوهم، كنحو ما ابتلى المسلمون مع /النبى صلى الله عليه وسلم عام الخندق،وهى غزوة الأحزاب التى أنزل الله فيها [سورة الأحزاب] وهى سورة تضمنت ذكر هذه الغزاة، التى نصر الله فيها عبده صلى الله عليه وسلم، وأعز فيها جنده المؤمنين، وهزم الأحزاب ـ الذين تحزبوا عليه ـ وحده بغير قتال، بل بثبات المؤمنين بإزاء عدوهم. ذكر فيها خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحقوقه، وحرمته، وحرمة أهل بيته، لما كان هو القلب الذى نصره الله فيها بغير قتال. كما كان ذلك فى غزوتنا هذه سواء. وظهر فيها سر تأييد الدين،كما ظهر فى غزوة الخندق. وانقسم الناس فيها كانقسامهم عام الخندق. وذلك أن الله ـ تعالى ـ منذ بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم وأعزه بالهجرة والنصرة صار الناس ثلاثة أقسام: قسمًا مؤمنين: وهم الذين آمنوا به ظاهرًا وباطنًا. وقسمًا كفارا: وهم الذين أظهروا الكفر به. وقسمًا منافقين: وهم الذين آمنوا ظاهرًا، لا باطنًا. ولهذا افتتح [سورة البقرة] بأربع آيات فى صفة المؤمنين، وآيتين فى صفة الكافرين. وثلاث عشرة آية فى صفة المنافقين. وكل واحد من الإيمان والكفر والنفاق له دعائم وشعب، كما /دلت عليه دلائل الكتاب والسنة، وكما فسره أمير المؤمنين على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ فى الحديث المأثور عنه فى الإيمان ودعائه وشعبه. فمن النفاق ما هو أكبر، يكون صاحبه فى الدرك الأسفل من النار، كنفاق عبد الله بن أبىّ وغيره؛ بأن يظهر تكذيب الرسول أو جحود بعض ما جاء به، أو بغضه، أو عدم اعتقاد وجوب اتباعه، أو المسرة بانخفاض دينه، أو المساءة بظهور دينه، ونحو ذلك، مما لا يكون صاحبه إلا عدوًا لله ورسوله. وهذا القدر كان موجودًا فى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما زال بعده، بل هو بعده أكثر منه على عهده؛ لكون موجبات الإيمان على عهده أقوى. فإذا كانت مع قوتها وكان النفاق معها موجودًا فوجوده فيما دون ذلك أولى. وكما أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم بعض المنافقين، ولا يعلم بعضهم، كما بينه قوله: وقد اختلف العلماء فى قبول توبتهم فى الظاهر، لكون ذلك لا / يعلم؛ إذ هم دائمًا يظهـرون الإسـلام. وهـؤلاء يكثرون فى المتفلسفة من المنجمين، ونحوهم، ثم فى الأطباء، ثم فى الكتاب أقل مـن ذلك. ويوجـدون فى المتصوفة والمتفقهة، وفى المقاتلة والأمراء، وفى العامة أيضًا. ولكن يوجـدون كثيرًا فى نحل أهـل البدع، لاسيما الرافضة، ففيهم من الزنادقة والمنافقين ما ليس فى أحد من أهل النحل؛ ولهذا كانت الخُرَّمِيَّة، والباطنية، والقرامطة، والإسماعيلية، والنُّصَيْريَّة، ونحوهم من المنافقية الزنادقة، منتسبة إلى الرافضة. وهؤلاء المنافقون فى هذه الأوقات لكثير منهم ميل إلى دولة هؤلاء التتار؛ لكونهم لا يلزمونهم شريعة الإسلام، بل يتركونهم وما هم عليه. وبعضهم إنما ينفرون عن التتار لفساد سيرتهم فى الدنيا، واستيلائهم على الأموال، واجترائهم على الدماء، والسبى، لا لأجل الدين. فهذا ضرب النفاق الأكبر. وأما النفاق الأصغر، فهو النفاق فى الأعمال ونحوها؛ مثل أن يكذب إذا حدث، ويخلف إذا وعد، ويخون إذا ائتمن، أو يفجر إذا خاصم. ففى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)، وفى رواية صحيحة: (وإن صلى، وصام،وزعم أنه مسلم)، وفى الصحيحين /عن عبد الله بن عمرو عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق، حتى يدعها: إذا حدث كذب. وإذا وعد أخلف. وإذا عاهد غدر. وإذا خاصم فجر). ومـن هـذا الباب: الإعراض عـن الجهاد، فإنه من خصال المنافقين. قـال النبى صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من نفاق). رواه مسلم. وقـد أنزل الله [سـورة براءة] التى تسمى الفاضـحة؛ لأنها فضحت المنافقين. أخرجاه فى الصحيحين عن ابن عباس، قال: هى الفاضحة، ما زالت تنزل: (ومنهم)، (ومنهم) حتى ظنوا ألا يبقى أحد إلا ذكر فيها. وعن المقداد بن الأسود قال: هى [سورة البحوث]؛ لأنها بحثت عن سرائر المنافقين. وعن قتادة قال: هى المثيرة؛ لأنها أثارت مخازى المنافقين. وعن ابن عباس قال: هى المبعثرة. والبعثرة والإثارة متقاربان. وعن ابن عمر: أنها المقشقشة؛ لأنها تبرئ من مرض النفاق. يقال: تقشقش المريض إذا برأ. وقال الأصمعى:وكان يقال لسورتى الإخلاص: المقشقشتان؛ لأنهما يبرئان من النفاق. /وهذه السورة نزلت فى آخر مغازى النبى صلى الله عليه وسلم ـ غروة تبوك ـ عام تسع من الهجرة، وقد عز الإسلام، وظهر. فكشف اللّه فيها أحوال المنافقين، ووصفهم فيها بالجبن، وترك الجهاد. ووصفهم بالبخل عن النفقـة فى سبيل اللّه، والشح على المال. وهذان داءان عظيمان: الجبن والبخل. قال النبى صلى الله عليه وسلم: (شر ما فى المرء شح هالع، وجبن خالع). حديث صحيح؛ ولهذا قد يكونان من الكبائر الموجبة للنار، كما دل عليه قوله: مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} وأما وصفهم بالجبن والفزع، فقال تعالى: وكذلك قال فى [سورة محمد] صلى الله عليه وسلم: وقال تعالى: ومن تدبر القرآن وجد نظائر هذا متظافرة على هذا المعنى. /وقال فى وصفهم بالشح: وقال فى السورة: وهذا يندرج فيه ما يؤكل بالباطل: من وقف، أو عَطِيَّة على/ الدين، كالصلاة، والنذور التى تنذر لأهل الدين، ومن الأموال المشتركة، كأموال بيت المال، ونحو ذلك. فهذا فيمن يأكل المال بالباطل بشبهة دين. ثم قال:
|